الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة في سهرة أعادت لمهرجان قرطاج مجده وأوهجت بريقه: "تريو تقاسيم" يعزف لحن الحياة و"تريو جبران" يرسم فلسطين وطنا مُعانِقًا للحرية

نشر في  15 أوت 2023  (19:49)

في سهرة من السهرات الفنية التي أعادت مجد مهرجان قرطاج الدولي وأوهجت بريقه الذي كاد أن يخبو ويخمد، اجتمع مساء أمس الاثنين 14 أوت 2023 على ركح مسرح قرطاج كل من الثلاثي تقاسيم القادم من تركيا والثلاثي جبران القادم من فلسطين ذاك البلد الذي سكن أوتار وجداننا واخترق أرواحنا وكلّ ما فينا... اجتمعا لإحياء أمسية نطقت فيها الموسيقى فناجى كلامها الأرض والنجوم والسماء، وعايش من خلالها الجمهور حلما سافر فيه الى عوالم سرمدية أنسته علقما علق بالوجود وقسوة خبّأتها أوراق الحياة...  

تحت ثلاث زيتونات تزيّنت بشموع المقاومة والحرية، كانت البداية مع تقاسيم،  بثلاثيها العازف الذي اعتلى الركح أمام جمهور كان متعطّشا للسلام والسكينة اللذان لامسهما من عزف أنامل نسجت ظلال الموجود والخيال...

Peut être une image de 4 personnes, instrument de musique, éclairage, foule et texte

يعانق الثلاثي تقاسيم آلاتهم الموسيقية كأولئك الماسكين بعبق الوجود، فترى اسماعيل تونجيلك على آلة البزق وهايتش دوجان على القانون وحسنو سنلندرسي عازف  الكلارينيت... تراهم فتسمع عزفهم الذي تشمّ من خلاله مسك الحكايات والروايات التي سكنت البال والمخيّلة دون أن تنطق بها الكلمات...

تُطوّعُ الآلات الموسيقية ويتمخّض رحمها فينجب بلسما وترياقا ودواء، فيتماهى ويتخاطب الجمهور روحيا مع عزف تريو تقاسيم الذي تجاوز ضجيج الأفكار ورسم خيوطا من النور الذي زيّن أظعان الهائمين....

وفي تجليّات موسيقية وترية استمتع الجمهور بمقطوعات راوحت في ألحانها بين نغم الشرق ونغم الغرب وبين لحن الشمال ولحن الجنوب، ويدغدغ عزف لكلارينيت هواجس الذاكرة ويعود بنا إلى قصة عازف المزمار السحري ويقف بنا على أطلال لم يغيّبها أنام النسيان...

Peut être une image de 1 personne, trompette, flûte, violon, hautbois, clarinette, saxophone et texte

تتعانق أرواح الطرب وتلثم وجدان الجالسين على المدارج والكراسي،  فتستحضر فرقة تقاسيم نغمات أغنيتي "آه ودعوني" للمطربة التونسية صليحة و"إنت عمري" للمطربة المصرية أم كلثوم الى جانب عزف موسيقى أغنية "Gülümse Kaderine" للفنانة التركية كيباريه، فتصدح المدارج وتهتز، وتزهرّ القلوب وتتفتّح الإبتسامات ...

Peut être une image de 1 personne

والى جانب النغمات والألحان والمقطوعات الموسيقية والمعزوفات التي جامعت بين التقليدي والحديث والجاز والكلاسيكي، يرحل تريو تقاسيم بالجمهور الحاضر الى فضاءات رحبة من الإمتاع غناءً فيطلق اسماعيل تونجيلك العنان لصوته المبحوح ويصدح بأغنية تركية شهيرة للمغنية والشاعرة التركية سيزين آكسو بعنوان " Belalım Yanarım" بمعنى "بلائي احترق"...

وهي أغنية حاكت الأوجاع التي سكنت القلوب وكانت بحجم الاشتياق الذي جاوز مسافات وعمق الأنهار والبحيرات والجبال، فتساءلنا كما تساءلت كلمات الأغنية أين هي السماء وأين هي الأرض وأين نحن؟

 تريو جبران يرسم فلسطين وطنا معانقا للحرية...

دقّت الساعة الحادية عشرة وتجاوزتها بسبعة عشرة دقيقة كاملة لتأذن بقدوم فرقة "تريو جبران"،  هذه الفرقة التي لا تكاد العبارات والأحرف ولا الكلمات أن تحاكي وتصف جمالية وروحية ما خُلق من عزفهم لآلة العود سلطانة الآلات المتربّعة على أوتار الحنين والذكريات وهو عزف انصهر في أجسادهم وأرواحهم والتحم في تعبيرات وجوههم...

"بالزنبق امتلأ الهواء، كأنّ موسيقى ستصدحُ. كلُّ شيء يصطفي معنى، ويرسلُ فائض المعنى إليَّ. أنا المعافى الآن، سيِّدُ فُرصتي في الحب. لا أنسى ولا أتذكّر الماضي، لأني الآن أولدُ... أقفز ُصاحياً وأرى وأسمع. كلُّ هذا الزنبق السحريّ لي: بالزنبقِ امتلأ الهواء كأنّ موسيقى ستصدح"..

بمقطع من قصيد لم ينشر للشاعر محمود درويش الذي رافقت روح كلماته فرقة تريو جبران 18 سنة كاملة، انطلقت رحلة أخرى سطعت فيها ألوان الموسيقى واهتزت معها أنفاسنا...

بالموسيقى تُزهر روح المقاومة والصمود فتحرّر الشعوب وتنعتق الأوطان وتنجلي كل القيود والأغلال، بالموسيقى تُرسم الحكايات وتشرق شمس الذكريات وتستفيق البواطن وتستيقظ الضمائر...

بعزف خماسية مكوّنة من ثلاثي الإخوة جبران (سمير، ووسام، وعدنان) المرفوق بعازفين، تبلورت كل هذه المعاني وانبثقت، نُطقت الحرية وكُسرت كل الحدود الجغرافية واخترعت فلسطين وطنا محرّرا وبلدا لا مكان فيه للأسر والإحتلال.

Peut être une image de 1 personne, guitare et texte

ورغم الرعشة التي  سكنت قلبه والخوف الذي لامس أنامله وقدميه بسبب جلوسه للعزف أمام الجمهور الذي توافد البارحة على مسرح قرطاج، وهو جمهور ذو ذائقة خاصة ومزاج موسيقي بعيد عن المزاجات الموسيقية التي أصبحت منتشرة، رغم كل ما شعر به سمير جبران وفق ما باحه في بداية العرض الفني نجحت الفرقة من خلال عزفها وآدائها المميّز في نحت سهرة لامست سقف الإبداع وفاقته ففعلت الفرقة ما لم تفعله من قبل... فكانت سهرة  لن تمحى من مسيرتها ولن تنسى من ذاكرة كل من حضرها..

Peut être une image de 5 personnes, instrument de musique et texte

النجاح الفني لتريو جبران وهي أول فرقة في تاريخ الموسيقى الشرقية التي تضم ثلاثة عازفي عود، كان وليد إتقان التأليف الموسيقي والعزف على آلة العود التي يتولى الشقيق الأوسط صناعة آلاتهم بيده، وهي حرفة ورثها عن والده وطوّرها بالدراسة في معهد أنطونيو ستراديفاري في إيطاليا..

Peut être une image de 1 personne, guitare et texte

وبمعزوفات تنتمي إلى ألبوم مجاز وسوء فهم وأسفار، وعلى سحر نغمات تزيّنت بكلمات قصيد  "أنتظرها" وعدة قصائد أخرى لشاعر المقاومة وشاعر الجرح الفلسطيني محمود درويش الى جانب تكريم الفرقة لروح الفنانة التونسية ذكرى محمد من خلال أداء سمير لأغنية "وحياتي عندك"، ترك تريو جبران أنغامهم في نفوسنا فعشنا معهم سهرة كانت أشبه بالحلم... سهرة كان فيها الجمهور العازف والمستمع والمغني وهو يشدو في آخر الحفل أغنية «أهواك» لمحمد عبد الوهاب...

منارة تليجاني